مسامير من خشب..
قصة قصيرة
لم أُدرك انّي بصدد كتابة قصّة قصيرة ، حتى انفصلت العربة عن الحصان ، كانت نهاية مؤلمة، وقع فيها اللوم على ابي ، كيف لم يضبط عجلاتها، ويُحكم ربطها بالحصان ، ابي الذي يجعل الخشب يحتضر بين يديه ، حين يلوي عنقه، ليُجبره على مطاوعته ، لم يستعمل يوما مسمارا حديديا لتثبيت قطعة خشبية بأخرى ، بل يعمل ثقوبا ثم يحشر فيها مساميرا من الخشب ، ويعيد صقلها حتى يُخفي مواضع الربط تماما ، ويجعلها كأنها قطعة واحدة ، كانت بداية عملي مع والدي في المرحلة المتوسطة ، وفي طور المراهقة صرت لا احب الدراسة ، لكنّي أتظاهر بالخروج من البيت كل صباح بحجة الذهاب الى المدرسة ، اتواجد في الصف لدرس او درسين ، ثم نعبر انا وصديقي فوق حائط سياج المدرسة ، ونمضي بقية الوقت في السّوق ، ولا نعود الى البيت إلّابعد انتهاء وقت الدّوام ، لإيهام والدي بتواصلي مع الدوام ، ، لكنّ النتيجة في نهاية السّنة تفضحني، ثلاث سنوات دراسية ضاعت بسبب الرسوب ، وهو تصرّف ندمتُ عليه فيما بعد ولاأزال ادفع ثمنه ، لأنّي كنت اتجاهل نصائح أهلي وتوجيههم لي ، وأخيرا وصل والدي الى قناعة بأن اجباري على مواصلة الدراسة هو ضرب من العبث ، فطلب منّي ترك المدرسة ومساعدته بالعمل في ورشة النجارة، كان يقول لي ان الفشل في الدراسة لايعني الفشل بالحياة ، ويشجعني على تعلّم ومزاولة صنعة ما ، وبفترة قصيرة اتقنت معه العمل ، واكتسبت الخبرة المناسبة ، وبمرور الوقت صرت اُفكر بتطوير الورشة وتوسيعها ، فجلبت المكائن ، لتنويع الانتاج ليشمل نجارة الكراسي وغرف النوم ، نقشها وزخرفتها وتعشيقها ، وجلبت ذوي الخبرة من العاملين .. يقول والدي انت ناجح وذكي في ادارة الأمور رغم فشلك في الدراسة ، أبقى لنفسه ركن صناعة العربات دون تغيير، لكنّه صار يتباطئ بعمله لضعفٍ في بصره وتهالكٍ في قواه الجسمية، فيُمضي الاسابيع أحيانا دون ان يتمكن من اكمال عربة واحدة ، ثمّ مع تقدمه بالعمر، اصبح يرفض اي تدخّل لتغيير نمط عمله ، ويصر على تصنيع الأجزاء من الخشب دون غيره ، ولايستعمل مسامير الحديد والاشرطة المعدنية والزوايا لتقوية هيكل العربة ، وانجازها بوقت اسرع ، وحجته في ذلك ان الخشب اكثر جمالا لأنّه يتقبّل الزخرفة والتزويق ، كان والدي لايستغني عن العربة والحصان ، لتعلقه بالذكريات معهما ولايرغب بمفارقتهما ، يقودهما في الذهاب والإياب من وإلى الورشة ، يسلك يوميا طريق السّدة الترابية المعبّد بالقير بمحاذاة نهر الفرات ، وذات يوم شديد المطر وينهمر بغزارة ، ظلّت العربة واقفة امام الورشة بعد أخذ الحصان إلى السّقيفة ، لم ينقطع هطول المطر طيلة النهار، طلبنا من والدي بعد انتهاء عملنا لذلك اليوم ان يركب معنا في السيارة ، حاولنا اقناعه انه لافرق بينها وبين العربة لأنّ هيكليهما مصنوعان من الخشب ، لكنه لم يقتنع ، وتحت وابل من المطر جلب الحصان وربط العربة ، وانطلق بها وهو يستمتع بمناظر الأشجار ، وهي تتمايل وكأنها تتُراقص على ايقاع ارتطام المطر بالأرض ، ونسمات باردة يخالطها الرّذاذ تلامس وجهه ، وتبعث في نفسه الإنتعاش والنّشوة ، حتى وصل الى السّدة وارتقاها الحصان بصعوبة ، كونها مرتفعة عن الارض ، سمع طقطقة في مفاصل العربة اثناء الصعود لكنّه لم يعيرها اهتمامه ، كان واثقا من متانة صناعته لها ، وواصل ضرب الحصان بالسّوط ، لحثّه على السّرعة ، ولم تمضِ سوى دقائق حتّى انفصلت العربة عن الحصان ، فانحرفت عن السّدّة لتسقط في النهر.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أبواب..قصة قصيرة.

رجل من رذاذ..ق.ق